آخر الأحداث والمستجدات
من أوبئة مكناس خلال القرن التاسع عشر..
كانت الأوبئة دوما من أعظم تجليات ومصادر مأساة الانسان عبر التاريخ، وجدير بالاشارة الى أنه مهما حصل من تحول وتقدم وتمايز بين الشعوب هنا وهناك من بقاع الأرض، كانت الأوبئة ولا تزال حاضرة في انتظار فرص انتشار وفتك كلما توفرت شروط مواتية لذلك من مجاعات وجفاف وجراد.. وغيره. وعند التأمل فيما ورد حول الأوبئة في كتب التاريخ على تباين مضانها يجد المرء نفسه بدهشة صادمة، لِما كانت عليه هذه الآفات الطبيعية من قسوة وشدة سحقت البشرية وألحقت بها عبر قرون نزيفاً واسعا شمل ما هو ديمغرافي واجتماعي واقتصادي ونفسي وبيئي..
ويتضح من خلال النصوص الاخبارية التاريخية منذ العصر الوسيط على الأقل، أن ما تعرض له الانسان من أوبئة جمع بين طاعون وجذري وحمى صفراء وملاريا وزهري وتيفويد وكوليرا وغيرها، رغم أن الاخباريين ومنهم المغاربة لم يكونوا يفرقون بينها من خلال وضعهم لها في خانة الوباء. كلها جوائح ومهالك أتت على ملايين القتلى بعض منها تم الخلاص منه بحكم ما حصل من تطور طبي وقائي وعلاجي وآخر لا يزال منتصبا مخيفا مرعبا، ومن هنا ما هناك من أسئلة مقلقة حول أمراض معدية وأخرى متوطنة وبين الأوبئة.
وفي هذا الاطار لأحوال صحة ومعيش المغاربة دور هام في فهم ما كان عليه أمس بلادنا من وضع اجتماعي وثقافي، فقد عرف مغرب القرن التاسع عشر سلسلة آفات دورية اشتدت وطأتها من جهة لأخرى ومن فترة لأخرى، مثلما حصل مع الكوليرا مثلاً والذي يرتب من الأوبئة الأكثر شهرة في تاريخ البشرية الحديث. فالدراسات والأبحاث التاريخية الوبائية تتحدث على أن ما بين بداية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين اجتاح هذا الوباء العالم لمرات عدة ، بل لا يزال يعيشه في ظل وباء سابع للكوليرا انطلق في بداية ستينات القرن الماضي من أسيا. وكان هذا الوباء دوما من أخطر الأمراض المعدية ومن الأربعة منها الأكثر فتكا بالإنسان الى جانب الطاعون والحمى الصفراء والجذري، بل الكوليرا من أبشع المصائب نظراً لأعراضها وأثرها وما يمكن أن تتسب فيه من انهيار جسدي للانسان.
وقد ارتأينا من مجموع ما أصاب بلادنا القرن التاسع عشر من موجات وباء، عندما بدأ الاخباريون المغاربة يميزون في نصوصهم بين الطاعون وغيره من الأوبئة، إثارة أزمتين من أزمات وباء الكوليرا الذي عصف ببلادنا وكان شاملاً بها، الأولى تلك التي ارتبطت بنهاية ستينات القرن والثانية ما حدث من هذا الوباء خلال نهاية السبعينات منه بعد عقد من الزمن بين الأولى والثانية. علما أن هذا الوباء خلال هذه الفترة تسبب في هلاك حوالي ستة آلاف من أهل الرباط وحوالي ثلاثة آلاف بتطوان سنة 1855، ومع نهاية نفس القرن وبعد تسربه عبر سفينة حجاج كان بأثر بليغ عام 1896، ولعله الوباء الذي نعته المغاربة خلال هذه الفترة ب"بوكًليب" وقد عجز المخزن عن وضع حد له بسبب رفضه إجراء حجر صحي على المسافرين بحراً.
فحول كوليرا نهاية ستينات القرن التاسع عشر(1868) قالت نصوص اخبارية مغربية معاصرة أنه بدأ بقيء واسهال مفرطين، وأن تسربه للبلاد حدث عبر طنجة بسبب حجاج مغاربة وأن سفينة في هذا التاريخ كانت تحمل حجاجاً من مصر منعت من الرسو بهذه المدينة وعادت أدراجها الى الاسكندرية من جديد. ورغم ما كان من اجراء احترازي تجاه سفن الحجاج تسرب الوباء الى شمال البلاد حيث تطوان وطنجة، مع أهمية الاشارة الى أن محمد الأمين البزاز رحمه الله يذكر أن هذا الوباء تسرب قبل هذا التاريخ عبر حدود البلاد الشرقية التي ظلت مفتوحة، مضيفاً أن ما حصل من انتشار للعدوى بمختلف جهات البلاد ساعدت عليه ظروف المغاربة المعيشية، وأن عدد القتلى بسببه في طنجة لوحدها مثلاً كان بمعدل سبعة عشرة ضحية يومياً، قبل أن يقلع عنها في أواسط شهر فبراير من سنة 1868.
واذا كانت المصادر التاريخية تلتقي حول كون شمال البلاد شكل وجهة تسرب الوباء للبلاد، وباعتبار طنجة وتطوان كانتا بوابتان بحريتان هامتان بهذه الجهة، فإن الوثائق هي بنوع من التضارب حول تاريخ تسرب "الكوليرا" اليهما خلال هذه الفترة، مع أن الراجح بحسب تقارير قنصلية هو أن المدينتين أصيبتا به دفعة واحدة عام 1868. وكان الوباء قد تجدد بطنجة صيف نفس السنة وبفتك شديد، قبل انتقاله لفاس التي كان بها حاداً جداً، فقد ورد عنه "وقد بلغنا أن الألم المعروف عند العامة ببوكًليب وصل لفاس، وكثر موت الناس به حتى بلغ الموتى به نحو الثلاثمائة ونصف في اليوم." هذا قبل يزحفه الى مكناس ثم سلا والرباط. وكان هذا الوباء قد مكث بتطوان سبعة وثلاثين يوما وبطنجة سبعة وعشرين يوما وبالعرائش تسعة وعشرين يوما مع أطول مدة له سجلت بالصويرة بخمسة وسبعين يوما، وقد كان عدد ضحاياه في تطوان أربعمائة وثلاثة وثلاثين وفي طنجة أربعمائة وواحد وأربعين مع أكبر نسبة كانت في مراكش بألف وثلاثمائة ضحية.
ونظراً لِما كان عليه مغرب النصف الثاني من القرن التاسع عشر من عدم استقرار لأسباب عدة ومتداخلة داخلية وأجنبية، فإن ما اعتمده المخزن من حَرْكَات سلطانية طبعت هذه الفترة كان بأثر كبير في اتساع رقعة الأوبئة. فحَرْكة السلطان محمد بن عبد الرحمن مثلاً الى مراكش عبر بلاد زعير عرفت انتشار واسعاً للوباء بين عساكرها، بحيث أتت الكوليرا على ثلاثمائة منهم كمعدل يومي مما تسبب في خسائر بشرية كبيرة، تحدثت وثائق مغربية حولها عن صعوبة احصاء موتى المحلة السلطانية، وأنه مات ما لا يحصى من عساكر المخزن لدرجة أنه تم تركهم على الأرض تأكلها ضباع وذئاب، واضطر السلطان بسبب الوباء للعودة الى مكناس عبر مدينة سلا.
أما عن وباء "كوليرا" نهاية سبعينات القرن التاسع عشر(1878)، الذي قال عنه عبد الله العروي في "أصوله الاجتماعية" أنه كان ضمن دروة أزمة هذه الفترة التي انتهت الى اندحار كثير، فمن المفيد التأمل فيما ورد حوله في نص معاصر جاء فيه:" دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين وألف فكانت هذه السنة من أشد السنين على المسلمين قد تعددت فيها المصائب والكروب وتلونت فيها النوائب والخطوب.. فكان فيها أولا غلاء الأسعار..ثم عقب ذلك انحباس المطر..وأجيحت الناس وهلكت الدواب والأنعام، وعقب ذلك الجوع ثم الوباء ثلاثة أصناف، كانت أولا بالاسهال والقيء..ثم كان الموت بالجوع في أهل البادية خاصة هلك منهم الجم الغفير، وكان اخوانهم يحفرون على من دفن منهم ليلاً ويستلبونهم من أكفانهم عثر بسلا على عدد منهم، وأمر السلطان..أن يرتبوا للناس من الأقوات.. وبعد هذا حدث الوباء بالحمى في أعيان الناس فهلك منهم عدد كبير."
ومن جملة ما طبع هذا الوباء كونه جاء مصحوباً بمجاعة عصفت بعدة جهات من البلاد، قال عنها قنصل فرنسا بالدار البيضاء : "إن سلاطين المغرب ينظرون الى بؤس السكان كأفضل وسيلة للمحافظة على عرشهم .. لأنهم يخشون أن يؤدي رغد العيش الى انتفاضة شعبهم". هذا خلافاً لِما جاء في وثائق مغربية معاصرة حول ما كان عليه المخزن المغربي، من تدخل ومساعدات إبان فترات الأزمات والآفات الطبيعية والاجتماعية. وكان وباء الكوليرا هذا خلال هذه السنة قد انطلق من مدينة مكناس في عز أزمة مجاعة طاحنة، وبما أنه أتى على عدد كبير من الناس بها فقد اضطر المجلس الصحي بطنجة لتوجيه طبيب اسباني الى المدينة أكد واقع الحال.
والى فاس من مكناس انتقل الوباء قبل تسربه شرقاً الى تازة بواسطة التجار، ومن هذه الأخيرة بلغ تاوريرت ودبدو وعيون سيدي ملوك ثم بلاد الريف قبل أن يصل الى وجدة. ومن مكناس أيضاً كبؤرة انتقل الوباء جنوبا الى تافيلالت ومراكش التي ورد أن بسبب ما حصل كانت جثث القتلى تملأ طرقات المدينة بحوالي ثلاثمائة قتيل يومياً، ومن مكناس انتقل الوباء الى مدن غرب المغرب الساحلية. وبطنجة في اطار اجراءات وقاية قرر المجلس الصحي انتداب حرس صحي على أبوابها لمنع كل قادم، نفسه الاجراء الذي اتخذ بتطوان التي ورد أنها أدت أفدح ضريبة له بشمال البلاد. وفي دراسة تاريخية قيمة للدكتور العربي كنينح حول قبيلة بني مطير بجوار مكناس، ورد أنها تعرضت سنة 1878 لوباء رهيب أتى على عدد كبير من الأنفس، في وقت كانت فيه القبيلة بصدد مشادة عنيفة مع حرْكة سلطان عرفت بحرْكة الوباء.
من هنا وبعد اطلالة خاطفة حول حلقتين فقط من حلقات جوائح مغرب القرن التاسع عشر وقد تعلق الأمر بوباء "الكوليرا"، يبقى أن كل تشوف لكل تجديد في كتابتنا التاريخية يقتضى جملة اعتبارات غير خافية على أهل الشأن من باحثين ومؤرخين، نعتقد أن منها أهمية انفتاح أبحاثنا ودراساتنا على قضايا زمن بلادنا الاجتماعي، وما كان عليه من انعطافات ومحطات وتجليات بما في ذلك أزمات البلاد الديمغرافية. ورش كانت قد طبعته تطورات عدة هامة مع جيل الحوليات الفرنسية الثالث، من خلال ما حصل من ولوج لِما هو نوعي وبناء مفاهيم ونظم عوض جمْعِ وكَمْ.
إن انفتاح البحث على قضايا فكر فقهاءنا الطبي منذ العصر الوسيط من خلال جمع ما يتعلق بذهنيات وعقليات، بات وجهة على درجة من الأهمية لإغناء نصوصنا التاريخية الحديثة وتراكماتنا ومعها خزانتنا الوطنية. فما هي عليه ذاكرة بلادنا من أزمات طبيعية واجتماعية، تشكل زمنا وملفات داعمة لرهان دراسات ومقاربات وفق ما ينبغي من تقاطع منهجي ومعرفي، ما قد يسمح بمراجعات عدة حول هذا وذاك من تاريخنا عموماً.
ولا شك أن جوانب كثيرة من تاريخنا الاجتماعي لا تزال بغير ما ينبغي من التفات علمي، رغم ما تراكم في هذا الباب من جهد ونصوص بقيمة مضافة عالية. ذلك أن مصائب بلادنا من شدة دوراتها ملأت حيزاً هاما من زمنها بل هي بمحطات فاصلة فيه. وبقدر ما كان القرن التاسع عشر بآفات عدة خلفت أثرا وتدهوراً كبيراً على أكثر من صعيد، بقدر ما يتحدث الباحث والمؤرخ المغربي عما يسجل من عجز للمادة الوثائقية المتوفرة في اسعاف البحث والدراسة، لبلوغ تاريخ اجتماعي دقيق لمغرب ما قبل الاستعمار بل حتى مجرد رصد تطور عام يغطي جهات البلاد.
وفي أفق تاريخ اجتماعي أهم يخص زمن بلادنا المعاصر وحتى الراهن منه في سنواته الأولى، يتبين أنه من المفيد الانفتاح أكثر على الأرشيف الأجنبي عموماً والفرنسي الاسباني خاصة. لتأثيث مقاربات تخص مثلاً قضايا الأوبئة والمجاعات التي طبعت هذه الفترة، فالوثيقة الأجنبية قد تكون بمعطيات هامة تخص المجال المحلي من مدن وبوادي، وبالتالي امكانية سد ثغرات وبياضات في تاريخ بلادنا الاجتماعي، فضلاً عما يمكن تحقيقه لفائدة خزانة تاريخية وطنية من خلال أبحاث ودراسات حديثة بقيمة مضافة أكثر أهمية.
الكاتب : | عبد السلام انويكًة |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2020-04-22 21:48:47 |